للدّعاة فقط..
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً}.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوز عظيماً}.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الحقيقة أن الحديث حول بعض الأمور متعبٌ بعض الشيء، خاصة حين يكون متعلقاً بمواضيع حساسة في وقت مليء بالوقائع والاضطرابات والأحداث المخيفة، ولكن مهما يكن لا بد أن نتحدث عن بعض تلك الأمور، بعد أن نعرف أن ما يتميز به أي موضوع هو أن يطرق في وقته وقبل انتهاء أجله، فإن تقدم على وقته كان نوعاً من التخمينات، وإن تأخر عن وقته كان نوعاً من اللغو.
وإن ما نتحدث به هنا.. أمور مهمة، عظم بها المصاب واحتار منها ذوو الألباب.
وصدق فيها قول القائل..
أمور يضحك السفهاء منها ويبكي مـن مغبًّتِها اللبيبُ
فهذه الكلمات هي رسالةٌ موجهة إلى إخواننا من الدعاة إلى الله، بثثتها نصيحة غالية وطرقت فيها أبوابا مختلفة وإن كانت مترابطة، ومواضيع مهمة جدا يحتاجها كلٌّ منا، على أنها تحتاج إلى النظر إليها بإنصاف وتجرد لله تعالى، دون هوىً أو عصبيةٍ لِتوجهٍ وإن كان خاطئ، وقد جعلتها مبوبة على أبواب متفرقة، وذكرتها مرتبة كالتالي:
* أولاً: من يدفع الفتنة..؟
* ثانياً: تغيير الواقع.
* ثالثاً: من الذي يستحق النصر..؟
* رابعاً: ظلمات التكفير.
* خامساً: ليتكم تعقلون.. ولا تستعجلون..
والله أسأل أن يجعل هذه الكلمات وكل ما نتكلمُ به أو نعمله خالصاً لوجهه الكريم، لا بطراً ولا رياء ولا سمعة، كما أسأله سبحانه أن يهدي بهذه الكلمات كل من استمع إليها قاصدا بذلك الهداية راغبا فيه، وأن يرزقنا صحة الفهم؛ "لأن صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبدٌ عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهم؛ لأن قيام الإسلام عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدُهم، وطريقَ الضالين الذين فسدت فهومُهم، ويصير من المنُعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وصحةُ الفهم نورٌ يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيحِ والفاسد، والحقِ والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسنُ القصد، وتحرى الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباعُ الهوى وإيثار الدنيا، وطلبُ محمدة الخلق، وترك التقوى". [إعلام الموقعين 1/69]
على أنه لا يفوتني التنبيه على مسألة مهمة وقاعدة عظيمة ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله: "على المسلم أن يتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قبول الحق ممـن جاء به من ولي وعدو، وحبيب وبغيض، وبر وفاجر، ويرد الباطل على من قاله كائنا من كان". [إعلام الموقعين 1/81]
فحري بالمسلم الذي يريد الحق إن استبان له الحق وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يذعن لذلك، دون الالتفات إلى غيرها إن كان يريد الجنة ويبتغي بعمله وجه الله تعالى.
من يدفع الفتنة..؟
لا بد أن نعرف أن الفتنة طالما نفخ فيها السفيه اتّقدت نارها وعظم شررها، وإذا وقعت الفتنة وابتلى بها الناس، تاهت العقول واضطربت، قال ابن تيمية رحمه الله: "والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، وهذا شأن الفتن، كما قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوّث بها إلا من عصمه الله" اهـ. [منهاج السنة 4/343]
ولو تأمّلت حالنا (بإنصاف) دون الخضوع للأهواء والنظريات السياسية وجدت أنه ما من فتنة في الدين إلا ووراءها جنس من البشرية قليلو العلم كثيرو الخوض في السياسة، دون عقل أو كياسة، حكموا العقول في دعوتهم وجعلوها أساس انطلاقتهم إلى الناس، وابحث جيداً في مجتمعاتنا المبتلاة بمثل هذه الأجناس وتأمل: هل تجد عالماً بالشرع ممن تجردوا للعلم الشرعي قاد زمام الفتنة وعرّض المسلمين للقتل والنهب والتشريد من أجل تحقيق مآربه السياسية، أم ستجد أن من يقوم بهذه الأمور (في الأعم الأغلب) من مدّعي العلم بالسياسة الذين فشلوا علمياً وسياسياً.
وهنا يجب أن نعترف أن بعض الناس ممن اشتغل بالسياسة يعاني من الانهزامية وتحركه ضغوط الناس في الشوارع حتى دهمائهم وجهالهم، وها هو أحدهم يعترف بذلك قائلاً: "إن ضغوط الناس لا يمكن إهمالها بحال من الأحوال الآن، ونحن في عصر صار للجماهير تأثير كبير، فأسقطوا زعماء كباراً، وهزوا عروشاً، وحطموا أسواراً وحواجز، وما زالت صور العزَّل الذين يواجهون الدبابات بصدورهم في الاتحاد السوفيتي.."، فهذا الكلام حول التأثير الجماهيري لو كان من رجل ديمقراطي لقُبِل منه (لا أقصد الكلام ولكن الموقف) ولكن حينما يصدر ممن يعمل في حقل الدعوة فإنه موقف مرير، فمتى تقاس الدعوة ونجاحها بالأعداد المتكاثرة؟....وأين هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ويأتي النبي وليس معه أحد"، أي يوم القيامة.
فإلى متى يستمر أسلوب التهييج في الشباب حتى يخترقوا أبواب الفتنة..؟
لماذا نجد بعض الدعاة يسعى للتكثير، دون أن يمحص عقائد من ساروا معه، حتى يأخذه الاغترار ويحاصره الغرور حينما يتكاثر حوله الشباب، ويا ليته يحافظ عليهم بعد أن وثقوا به فلا يلج بهم أبواب الفتنة في الدين والدنيا..، قال الماوردي رحمه الله في "درر السلوك في سياسة الملوك" (ص 122): "مع أن لكل جديد لذة، ولكل مستحدث صبوة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي منافقٌ عليم اللسان"، فتصير البدع فاشية، ومذاهب الحق واهية، ثم يفضي الأمر إلى التحزب والعصبية، فإذا رأوا كثرة جمعهم وقوة شوكتهم داخَلَهم عزُّ القوة، ونخوة الكثرة، فتضافر جهّال نسّاكهم، وفسقة علمائهم بالميل إلى مخالفيهم، فإذا استتب لهم ذلك زاحموا السلطان في رئاسته، وقبحوا عند العامة جميل سيرته، فربما انفتق ما لا يرتق، فإن كبار الأمور تبدو صغارا".
وما ذكره المارودي رحمه الله هنا ينطبق على أحوالنا أشد انطباق وأعظمه.
فتأمله بتجرد.
تغيير الواقع
لا شك أن كثيراً من الدعاة (أو ممن يعمل بحقل الدعوة) يسعى للتغيير، وأنا لا أدّعي الكمال في مجتمعاتنا الإسلامية، بل إن روح الإسلام قد تكاد تختفي في بعض الدول الإسلامية ومع الأسف الشديد. لكن السؤال كيف تكون معالجة هذا الواقع دون مفاسد؟..
أولاً: لا بد أن يعرف الدعاة أنه يجب علينا جميعاً أن نخضع لنصوص الكتاب والسنة ولا نتقدم عليهما برأي أو نظر، ولو فعلنا ذلك لاستقام لنا الأمر.
ثانياً: لا بد من معرفة أن الناس في هذه المجتمعات على صنفين: صنف يعيش في دار يكثر فيها البلاء على المسلمين، ويكون فيها المسلمون مستضعفين، وهؤلاء قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين". [الصارم المسلول ص221]
فالواجب إذن ألا يعرض نفسه للبلاء والفتنة، وليعلم المسلم أنه كلما زاد تمسكه بالسنة والعقيدة الصحيحة واتباع النبي صلى الله عليه وسلم كلما عصمه الله من كثير من الفتن وعواقب الأمور المردية.
قال ابن القيم عن قول الله تعالى ـ في المشركين ـ مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: "وتأمل قوله تعالى لنبيه: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} كيف يفهم منه أنه إذا كان وجود بدنه وذاته فيهم دفع عنهم البلاء وهم أعداؤه، فكيف وجود سرِّه والإيمان به ومحبته، ووجود ما جاء به إذا كان في قوم أو كان في شخص، أفليس دفعه عنهم بطريق الأولى والأحرى؟". [إعلام الموقعين 1/173]
وأما الصنف الآخر: فأولئك الذين يعيشون في بلاد يتمتعون فيها بالحرية في ممارسة دينهم وعبادتهم، فهم يعبدون ربهم دون خوف ويمارسون دعوتهم بكل أمان دون ضغوط، ولكن سرعان ما تغشاهم الأفكار الدخيلة التي تدفعهم لتغيير هذا الواقع الطيب، وكأنهم يريدون إما أن تكون الدنيا خلافة على منهاج النبوة وإلا لا...
وهنا لابد لنا من وقفة... فكم من دولة كانت تتمتع بالدعوة على منهاج النبوة مع إقبال أهلها على الدين والاستقامة على السنة، فلم يهدأ أصحاب الدعوات السياسية والثورات حتى قاموا ببعض الأعمال المناوئة للحكومة، فضيقت عليهم ومحت رسوم الدعوة، بل إنك لم تعد تجد من يتزيَّ بزي الإسلام؛ بسبب الحماس غير المنضبط وعدم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته.
إن من قواعد الإسلام العظيمة القاعدة الفقهية المشهورة التي تقول: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" فلا أدري لماذا لا يستعملها كثير من دعاة السياسة اليوم؟
وهذه القاعدة من أدلتها أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك قتل عبد الله بن أبى بن سلول ـ رأس المنافقين ـ بالرغم من إيذائه الشديد للنبي صلى الله عليه وسلم وما ترك قتله إلا خشية المفسدة، وذلك مخافة أن يسمع به البعيد، فيقول محمد صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه؟! فلا يدخل في دعوته ظاناً أن ابن سلول من أصحابه.
فترك قتله مع ما كان في قتله من مصلحة عظيمة وهي كف الأذى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فمالِ فقهاء السياسة لا يستعملون هذه القاعدة العظيمة المستمدة من الكتاب والسنة.
هذا إذا كان في العمل مصلحة محققة فكيف إذا لم يوجد وراء هذا العمل إلا مفسدة مثلها؟.
إننا نعاني من التصرفات غير المسؤولة عند بعض المتصدرين للدعوة، فكم تصرفوا من تصرّف رجع على الدعوة الإسلامية بالضرر والفساد وأدى إلى تراجعها عشرات السنين.
هل فكر من (يقوم ببعض الأعمال الإفسادية) ما الذي يمكن أن يحدث لإخوانه المسلمين الذين يعيشون بين صفوف الكفار؟..
أتدري.. أن تلك الأعمال غير المدروسة شرعاً، أفسدت معايش كثير من إخواننا المسلمين الذين يعيشون في ديار الكفار؟!
فمسلم يوجد مقتولاً ملقى في طريق.. ومحجبة تختفي فجأة، وأخريات يسجنّ بين عتاولة المجرمين!
وغير ذلك من الأمور التي كان أبرزها تحجيم أعمال الخير في كثير من دول الإسلام.. وتشويه صورة الإسلام التي يسعى بعض المسلمين المخلصين إلى تحسينها عند الكفار من أجل دعوتهم..
فماذا استفدنا من تلك الأعمال..؟!
من الذي يستحق النصر..؟
لا بد أن يعلم الجميع أن شدتنا على بعض المسلمين لا تعني أننا نوالي الكفار (معاذ الله)، ولكن يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين". [مجموع الفتاوى 28/53]
ومن أجل ذلك أقول.. يقول الله تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} فكيف يكون النصر الذي نرجو من الله..؟ أليس بإقامة كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؟ وانظروا في حال بعض الدعاة المتحمسين الذين يظنون أنهم أذكى من الناس فيقومون بالأعمال التي تجلب لدعوتنا التأخر.
هل هؤلاء نصروا دين الله.. حتى يرجو نصرته؟!
كثير منهم لم يحقق الدعوة إلى الكتاب والسنة على فهم السلف، التي تستحق أن يُنصر صاحبها..
فتجده يتخبط في عقيدته ولا ينكر على متعصبة المذاهب الذين يَرُدُّون سنة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل مذاهبهم، ويؤاخي المبتدعة ويواليهم ويحبهم، وفي المقابل يطعن في علماء الإسلام الربانيين الذين ينصرون السنة لأنهم يبينون زيف دعوته.
وبعضهم جعل (التيسير والشذوذ في فتاواه) ديناً يوالي ويعادي عليه، فيفتي بالغناء وجواز التمثيل، بل ويصرح أنه التقى بعض الفنانات التائبات وأقنعهن بضرورة الرجوع إلى التمثيل لكن بتمثيل محتشم!!!!
وبعضهم ابتدع رقصاً إسلامياً، وبعضهم ينافح ويقاتل من أجل قيام الأحزاب لزيادة التفرق والشتات فوق ما هو حاصل الآن.
وإذا قامت دولتهم فأي دين سيقيمون وهم يدعون إلى التقريب بين الأديان ويجاهدون من أجل ذلك؟!.
والعجيب أن هؤلاء يرفعون شعارات الجهاد، فمن يجاهدون وهم يرون أن كل الديانات على حق؟!
فهل أمثال هؤلاء يستحقون النصر؟!
يقول الله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً}.
فتأمل: وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ولم يقل يمكنهم، وهذا دليل على أن تمكينهم مقرون باتباعهم الدين الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهل اتبع الدعاة الذين أسلفت ذكرهم ما ارتضاه الله من الدين القويم؟!
وهذا التمكين مشروط بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً، كما في آخر الآية، فهل حقق هؤلاء الدعاة توحيد الله تعالى في أنفسهم وأتباعهم حتى ينصرهم الله ويوفقهم للحق ويثبتهم عليه..؟!! فلنراجع أنفسنا..